هناك في المدينة سحر محفور بالرصاص .
هناك في وجه بغداد شعر محفور بالأظافر.
تتأوه هي نعم، و لكنها شاعرة .
مجروحة مغتصبة مقطوعة الجناح و لكن شاعرة .
ألأنها ابنة دجلة الساحر . ألأنه مرسوم في جنباتها منذ الأزل ؟ هل التف هو داخلها أم التفت هي من حوله ؟
من يطوق من ؟ في المعادلة اتحاد ، و هنا يكمن الحب ، في جوهر الشعر ، الخلق ، الوحدة.
لا تسقط مدينة اتحدت بنهرها ، هو يفرض الإيقاع ، و إيقاعه قديم و مسيطر ، يتقدم أبدًا .
لن يفهم غازٍ هذا لأنه لا يمتلك الإيقاع ، عليه أن يعيش النهر ألفًا حتى يفهم !
هكذا صُنع البغداديون ، بالنهر ، بالشعر الذي لا يكتب إلا بالشعر . أنظر من فوق كيف يلتف النهر و يلتف ، ثم خض غماره ببطء و استمع لروايات الناس ، تفهم . بغداد قامت من الشعر و له و به ... إلى الأبد . هذا عندي يقين ... اطمئنان !
لمست لدى الناس رغبة متقدة بالقيامة. و الناس عمال و كتبة و ادباء و جيش و شرطة و قتلة . رغبة يشدها قدمًا حب قديم،
نهر قديم .
حول موقدة قديمة على ضفاف النهر القديم استمعت لرواياتهم حتى البكاء ، حتى الدم !
روى دكتور شفيق فيما روى ، عن اعتقال أخيه الأصغر زمن صدام حسين . روى بالشعر طبعًا . لم ألمس حقدًا ، لمست كل الحب.
اعتقلوه من الشارع فجأة بلا أي تهمة و هذا لدينا مألوف ، قال . كان علي أن أفعل المستحيل لإطلاقه. بعت كل ما أملك و تصرفت بمعارفي حتى نجحت . نجا و هو يقف بعد خطوة من عامود الموت .
أخضعناه لعلاج طويل لأن ما رآه ليس بواقعي ! سألته فيما سألت عما يذكر . بدا أن كل ذاكرته اختفت إلا تلك المكتوبة بالدم أمام بنادق الإعدام . كانوا كثراً هناك . كانوا يطلقون عليهم النار بمجموعات من ثلاث و ينتظرون ريثما تبحث كلاب مدربة عن قلوب الجثث لتنتزعها و تأكل . بعض الأجساد كانت لا تزال حية و كان على المحكومين بالموت أن يراقبوا . كان أخي بين آخر ثلاثة لحظة صدر الأمر بإطلاق سراحه . راقب الكلاب تأكل ، تنظر إليه و "تتفوغ" (تتنفس بنهم) !
سكت دكتور شفيق للحظة بدت لي كالأزل . من خلفه نهر و قمر ، وبيني و بينه نار و فنجان شاي و برد قارص. بيني و بينه الآن حب و احترام و انصهار ... و نهر .
هنالك جيل كامل عانى ما عاناه أخي . أتفهمون ؟ قال مسيطرًا على دمعه . ملايين . ملايين. ارتشف الشاى و أعلن : نحن الآن نبدأ من جديد و هذا جميل ، وبغداد لن يفهمها أحد .
قلت بغداد نهر و شعر و لن يفهمها إلا عشاق العشق !
بغداد نهر و سمك و موقدة و روح سامية و عرق و شاي و دمع و ابتسام و انبعاِث لتنين الماء .
بغداد زهر و شعر و إيمان و إلحاد و اتحاد و أصدقاء .
بغداد الشعر بغداد اللقاء بغداد البقاء !
قلت أحبها، و مضيت .
يتبع ...