5‏/5‏/2009

من المحرقة إلى المعركة .

في حالات الهلع التي قد تصيبنا و تتسبب بصدمة نفسية تستمر و تنمو مع الوقت، يبدو أن الدماغ البشري يتعرض فيها لعملية تغيير قوية في وصلاته العصبية.
تلك الوصلات المختصة بنقل انفعالات الصدمة عبر الدماغ تترسخ في كل مرة نتعرض فيها لما قد يذكر بحالة الهلع تلك ( كالنجاة بأعجوبة من حادث سير أو من مجزرة ، مشاهدة موت عنيف، حرب، اغتصاب، ألخ ). 

الأميغدالا Amygdala التي تعلمت حديثًا هذه التجربة النفسية القاسية (مراجعة من خطف أدونيس ١ و ٢ و ٣ )، و حفظت كل المشاعر المتعلّقة بها، تتحول لذاكرة متيقظة متأهبة لإطلاق العملية الكيميائية العصبية نفسها في كل مرّة تواجه فيها ما قد يستحضر الحدث المعني (صوت إغلاق باب عنيف قد يذكر بقذيفة قتلت أحد ما أمامنا، أو ربما حجر خفان مطلي بالأحمر قد يذكّر بمجزرة حصلت ذات يوم في حلبا).
تطلق الأميغدالا عندها الانفعالات نفسها التي رافقت الصدمة .
هذه عوارض يعرّفها علم النفس بال post traumatic stress disorder ، قل الإضطرابات العصبية لما بعد الصدمة أو PTSD .

مؤخرًا وقعت عيناي على دراسة تشير إلى أن ربع الناجين من المحرقة النازية تخلصوا من هذه الإضطرابات. ربعهم فقط ! أما من تبقى فيعيش حالة نفسية صعبة. الرعب رفيقهم الدائم .
هذه حقيقة من الغباء تجاهلها ، حقيقة لا بد من فهمها و التعامل معها كحالة تميز معظم المجتمع الإسرائيلي .
طبعًا، لم يتعرض الاسرائيليون جميعًا لهول المحرقة، و لكنهم برأيى يتعرضون لما هو أسوأ ربما. التربية على ثقافة المحرقة !
ثقافة المحرقة هنا إنما تقوم على أسس عدة أبرزها :

١- منذ ولادته يتربّى الاسرائيلي في مؤسسات تربوية تعليمية ضخمة بميزانياتها (و معظمها تديرها و تمولها جهات اليمين المتطرف) . أضف إليها ما يتلقاه من تدريب على الخوف في عائلة إنما توارثته جيلًا بعد جيل .
تاريخ من الخوف ، معزز بتهديد داهم كل يوم كما يعتقدون.
الخوف ، هو العارض الأبرز في اضطرابات ما بعد الصدمة كما يوثقه علم النفس عبر الزمن.

٢- دراسة نفسية إحصائية أخرى ، تفيدنا بأن ضحايا العنف الذين اعتقدوا أن ما في يدهم أي حيلة ، أولئك الذين عجزوا عن أي فعل، هم أكثر عرضة لاضطرابات ما بعد الصدمة من أولئك الذين حاولوا أن يفعلوا شيئًا ما و لو فشلوا في ذلك.
ضحايا المحرقة و الناجون منها، كانوا عاجزين عن أي فعل سوى مراقبة الأجساد الجائعة المشتعلة و صم الآذان عن نواحها!
العجز من أهم أسباب اضطرابات ما بعد الصدمة ، و هو يخلق شعورًا بالضعف المفرط يرافقه ذنب فظيع وميل للإنزواء.
أجدادنا كانوا ضحايا العجز تقول ثقافة المحرقة و تعزز ذنبًا دينيًا أخرق يحاول هستيريًا التسلح بأسباب القوة !

٣- تشير الدراسة نفسها حول ال PTSD إلى عارض ثالث مقلق يرافق مرضاها .
هم بمعظمهم يعجزون عن التعاطف مع غيرهم من البشر ! أي أنهم و بتوصيف أدق يعجزون عن قراءة مشاعر الغير و بالتالي فهُم لا يتفاعلون معها .
هذا بالذات ما تنتجه ثقافة المحرقة. إن كنت أنا الضحية و العالم كله عدوي ، فإني عاجز عن التعاطف مع أى من مآسيه.

هكذا تقود ثقافة المحرقة إلى مجتمع كامل مصاب بهستيريا اضطرابات ما بعد الصدمة !
تغذية الوصلات العصبية الناقلة لانفعالات الخوف و ما يرافقه من اضطرابات ما بعد الصدمة يومًا بعد يوم و جيلًا بعد جيل ،إنما يصنع مجتمعًا مشوهًا مريضًا .
هكذا تصنع الصهيونية أبناءها المستعدين أبدًا للقتال! سلّم المصاب بالهلع سلاحًا ، و سيقوم بقتل كل من يلقي عليه التحية !

أمام واقع ٍ كهذا و أمام ثقافة كتلك، ما العمل ؟
كيف نواجه هُذال العدو القابع على صدرنا في الجنوب ؟
فلنعترف . نحن أمام معضلة !
فلنواجهها و لكن و بالطبع ليس على طريقة أحمدي نجاد .

نكران المحرقة أو محاولة التقليل من حجمها لا يفيد بشيء بل هو تعامٍ عن حقيقة عدو مريض . تجهيل . تجاهل . ارتجال أحمق .
هو ارتجال يضع صاحبه في مصافي الأبطال في هذا العالم العربي الغارق في الأمية .
يجب أن ندرك أن المصاب بالهلع لا يجيد التفكير الصحيح ، و انجاز المقاومة الأخير في لبنان إنما أتى من دراسة طويلة لعقل العدو و أساليبه .
يجب الانطلاق من المحرقة إلى المعركة ، و ليس تجاهلها بل دراستها بعمق.

و بئس المصير لمن لا يعرف عدوه !
- يتبع-